اختارته اليونسكو احتفالا بمئويته الثانية.. 2021 عام دستويفسكى فى العالم
أعلنت منظمة اليونسكو اعتماد عام 2021 عاما للروائى الروسى دستويفسكى (11 نوفمبر 1821 – 28 يناير 1881) احتفالا بالذكرى المئوية الثانية لميلاده، ليعود إلى صدارة المشهد الثقافى، ليس فى روسيا وحدها، بل فى العالم كله، حيث ترك أثرا كبيرا برواياته:”الإخوة كارامازوف، الجريمة والعقاب، الأبله، الشياطين، المراهق، المساكين”.
كان دستويفسكى هو الأخ الثانى بين سبعة أبناء لطبيب جراح، سكير، وقد سكنت العائلة فى حى فقير، بالقرب من مستشفى للمجانين، وبيت لرعاية الأيتام، وكانا مصدرين دائمين لإبداعه، إضافة إلى تعرضه لنوبات صرع، بدأت حين كان فى التاسعة من عمره، لتفاجئه بعد ذلك فى فترات متفرقة من حياته.
لم يلتحق دستويفسكى بأية وظيفة، تناسب دراسته للهندسة، وأصدر فى بداية حياته عددا من الأعمال، كالمساكين والليالى البيضاء، قبل أن ينضم فى عام 1848 إلى جماعة ثورية، فقبضت عليه السلطات، وقدمته إلى المحاكمة، وصدر عليه حكم بالإعدام، كاد أن ينفذ، لكنه خفف إلى السجن مع الأشغال الشاقة، والنفى إلى سيبيريا.
بعد أربع سنوات من سجنه أفرج عنه، وألحق بخدمة الجيش، مبعدا عن بلاده، ولم يسمح له بالعودة إلى روسيا، إلا بعد عشر سنوات، استأنف بعدها كتاباته، وكان لتلك الفترة أثر كبير على صحته، لكنها زادت من قدرته على الإنتاج الأدبى.
وفى المرحلة الأخيرة من حياته أثمرت تجربته الإنسانية، نصوصا خالدة، تحدث عنها العالم، ثم ازدادت شهرته بعد الخطاب الذى ألقاه فى مراسم افتتاح تمثال الشاعر الروسى بوشكين، وحين توفى خرجت الحشود الكبيرة فى جنازته.
نشر أولى تجاربه عام 1846 بعنوان “الفقراء” ووصفت وقتها، بأنها أولى الروايات الاجتماعية الروسية، وحققت مبيعات كبيرة، ثم توالت بعد ذلك إصداراته، حتى غدا ظاهرة أدبية، يحكى عنها الجميع، على الرغم من رداءة أسلوبه ـ كما يرى البعض ـ وضعف صياغته، وهو الأمر الذى كان هو شخصيا يبرره، باضطراره للإسراع بنشر الروايات، لتسديد ديونه، لكن ذلك لم يؤثر فى عمق الرسائل الإنسانية، التى كان يرسلها فى نصوصه.
رجل من الجحيم
أثر الأدب الروسى فى حركة الأدب العالمية تأثيرا كبيرا، وظل دستويفسكى نجما فى سماء هذا الأدب، وكانت روايته “الجريمة والعقاب” درة التاج، فهى تطرح الجدل الأزلى حول الخير والشر، حول مرتكب الجريمة، والغصة التى تطارده، حول صرخة البرئ التى تظل عالقة فى الفضاء، حتى بعد رحيله.
وصفت “الجريمة والعقاب”بأنها رواية فلسفية ونفسية، وفى كل الأحوال فإنها روايته الطويلة الثانية، التى كتبها، بعد عودته من المنفى فى سيبيريا، وقد صدرت لأول مرة عام 1867، لتعبر عن مكنونات النفس البشرية وهواجسها وأحلامها وخطاياها، وكان فى الخامسة والأربعين من عمره، عندما أخذ فى كتابتها.
كان فى رحلة استشفاء خارج روسيا، واختار لها اسم «روديون رسكولنكوف» حين نشرت مسلسلة فى إحدى المجلات، وكانت فكرتها تراوده طوال سنوات، وهو فى سيبيريا، وقد كتب إلى أخيه الأكبر ميشيل، ينبئه بمساعيه للاتصال ببعض الأدباء الذين أنشأوا مجلات، وكيف أن أحدهم نقده مبلغا من المال، على أن يكتب قصة مطولة فى أى وقت يشاء، وهو يقول لأخيه إنه لن يكتب تلك القصة، التى تلوح فى خاطره، إلا بعد مغادرته سيبيريا.
ظل دستويفسكى سبع سنوات يفكر فى رسكولنكوف وجريمته، قبل أن يكتب فيها حرفا، كيف يحصل على المال لتحقيق غاياته، فلا يهديه تفكيره المريض إلا إلى ارتكاب جريمة، بقتل امرأة عجوز مرابية، وقد ارتكب الجريمة، بل ارتكب جريمتين، وحصل على المال، لكن شبح إثمه بقتل نفس بشرية يطارده، حتى يعترف بجريمته.
وصف أحد النقاد الروس دستويفسكى قائلا: «إن القارئ ليقف مندهشا من قدرته الفائقة على معرفة كل شيء، واختراقه ضمير شخص غريب عنه، فكثيرا ما نرى فى كتاباته صورة من تلك الأفكار التى تنزوى فى أعماق أنفسنا، ولا نبوح بها للصديق، بل لا نحب أن نجهر بها لأنفسنا».
يقول فى إحدى رسائله لأخيه:»يجب على المرء ألا يسرع، فلا يصدر غير الجيد، وقد كتبت أنت إلىّ من قبل تقول إنى كثير الغرور، إذ أحب أن أتقدم بقصة ممتازة، ولذلك أرقد فى صبر على بيض حتى يفقس ما هو جيد، فليكن، صدقنى إن الجهد ضرورى فى كل الأمور، كل أمر يتطلب جهدا كبيرا، وإنى مثلا أكتب كل منظر بمجرد ما يخطر لي، وأنعم به، ثم أعمل شهورا، بل سنوات، فى صقله وتحويره، واستوحيه أكثر من مرة، وأنعم بحبه، وأضيف هنا عبارة، وأمحو عبارة، وصدقنى إن المنظر يستنير دائما من هذا الجهد».